المكان يمتلئ باكداس من العربات المحترقة والمحطمة والتي صارت مأوي للقطط وغيرها من الحيوانات الضالة, لكن يبدو ان هناك سكان جدد بدأوا في سكن هذه المنطقة الخربة الواقعة علي اطراف المدينة , هؤلاء السكان هم خليط غيرمتجانس من اطفال ومراهقين تجمع بينهم جميعا صفات البؤس والشقاء وانهم جميعا قد لفظتهم مجتمعهاتهم ففرض عليهم هذا الكيان العشوائي قوانينه الخاصة.."البقاء للاقوي,القسوة وعدم الرحمة تجاه الاخرين" ..!!
خلف احدي هذه العربات المحترقة كان يرقد احمد وهو منكمش حول نفسه ,متخذا وضعية الجنين وهو يقاوم تلك البرودة التي تكاد تدك اوصاله وقد استعان عبثا ببعض الجرائد كغطاء ,علي امل ان يشعر ببعض الدفئ في تلك الليلة شديدة البرودة !
لكن صرخات مدوية مفاجئة افزعته وقد جعلته يقفزفي مكانه وقد اخذ يرتجف من الخوف والبرد , وقد حاول ان يجعل من بقايا العربة وظلمة الليل ستار له, محاولا ان يحبس انفاسه لكي لا يشعر به احد ..توالت الصرخات وقد بدأ يلمح نور ادرك بعد برهة ومن خلال الدخان المتصاعد ان احدهم اشعل نارا, رفع رأسه بحذرفوقع بصره علي فتي متوسط البنيان في العشرين من عمره,وهو يشير لاثنين من الصبية لاقتياد الطفل الصغير اليه,لقد كان هذا الفتي ما يعرفه الجميع في تلك المنطقة العشوائية باسم الزعيم !!... ومعه اثنان من اتباعه ..
استمرت صرخات الطفل التي تحمل عبارات التوسل والاستعطاف وقد اخذ يجول ببصره كمن يبحث عن من ينقذه , لكن من يملك الجرأة علي مواجهة الزعيم والذي علي الرغم انه لم يكن يتمتع ببنية جسمانية خاصة,لكن كان مجرد ذكر اسمه يصيب القلوب بالفزع !
كان احمد يدرك تماما سبب صراخ الطفل والذي يدل حجمه انه لم يتجاوز التاسعة من عمره, فمن المؤكد انه من الوافدين الجدد اللذين يجب ان يتلقوا اولي دروس هذا العالم حيث امتهان كرامتهم وانسانيتهم علي يد الزعيم ... ليصيروا خاضعين له!
استمرت صرخات الطفل الصغير لدقائق ثم عاد الصمت مرة اخري للمكان باستثناء صوت لنحيب متقطع يصدر عن الطفل ,وكان هذا يعني ببساطة ان الطفل الصغير قد فقد برائته للابد !!
كان احمد قد اعتاد علي مثل تلك المشاهد, مما خلق لديه نوع من انواع تبلد المشاعر,وعدم الاكتراث , خاصة وانه لا يستطيع ان يفعل اي شئ !
فما كان منه الا ان عاد لموضعه الاول قبل سماعه لصرخات الصغير ,لكنه لم يستطع معاودة النوم حيث بدأت الذكريات تطرق رأسه بقوة وكأنها شريط سينمائي يمر امام عينيه..
لقد توفي والده منذ ثلاث اعوام لينتقل هو واخوته للعيش في منزل جدته بعد زواج والدته وقد كان وقتها في الصف الثالث الاعدادي , وقد شعر انه عبء علي جدته ففضل ان يلتمس طريقه الي الشارع وليته ما فعل !
وبدأ حينئذ في بيع المناديل في اشارات المرورعلي ان يقضي الليل في أي مكان سواء كان ذلك عمارة تحت الانشاء بعد مغافلة حارسها او احدي المناطق الخربة او حتي علي احد الارصفة ,حتي كان اليوم الذي تم الامساك به من خلال الشرطة في احدي الحملات والتي ترتبط عادة باثارة قضية اولاد الشوارع اعلاميا مما يولد حالة من الاهتمام المؤقت ثم تعود الامور الي ما كانت عليه !فتم اقتياده مع اخرين لاحد اقسام الشرطة في تجربة مريرة تخللتها التعرض لاصناف مبتكرة من طرق الاهانة علي يد رجال الشرطة, حتي تم ايداعهم في احدي الاصلاحيات , ليجد في الاصلاحية صورة مصغرة لمجتمع الشارع !
فمثلما يوجد زعيم هنا, يوجد في الاصلاحية زعيم خاص بها, فبعد اغلاق باب العنبر يسود نفس القانون الذي يحكم مجتمع اولاد الشوارع , وهويذكر كيف نجا في بداية دخوله للاصلاحية من نفس التجربة المريرة التي مر بها الطفل الصغير لولا تدخل مشرف العنبر وهو امر لا يحدث كثيرا !
ربما لم يخفف عنه مرارة هذا الواقع الا زيارة بعض المتطوعين اللذين كانوا يحضرون معهم الاطعمة والملابس الجديدة واهدائها لابناء الاصلاحية..ابتسم احمد وهو يتذكر نورا وقد كانت احدي المتطوعات , وكانت زيارتها الاسبوعية هي الشئ الوحيد الذي يبقيه في الاصلاحية , كانت تحمل مشاعر حنان متدفقة طالما غمرته بها, كان يراها كاحد الملائكة وقد نزلت علي الارض ,كانت كلماتها الحانية تجعله يطير من فرط السعادة , كانت كثيرا ما تطلب منه ان يكمل دراسته " وقد كان في احلام يقظته يتخيل نفسه قد تخرج من الجامعة واذا بها تصارحه بحبها التي كانت تحتفظ به في قلبها علي امل ان يصير انسان له مكانته في المجتمع ليقبل اهلها به وان كانت تخشي من فرق السن لكونها تكبره ببضع سنوات"!
لكن حدث ان توقفت عن زيارة الاصلاحية, وعندما سأل عنها احد اصدقائها من المتطوعين , اخبره انها تزوجت, وهكذا لم يعد هناك شئ يجعله يتحمل البقاء في الاصلاحية , فقرر الهرب ...
صوت سارينة عربة الشرطة يدوي.. انتبه احمد للصوت الذي اخذ يقترب , لم يكن احمد مستعدا لتكرار نفس التجربة السابقة في حال الوقوع في ايدي الشرطة , فقررالفرار من المكان !
.. متخذا طريق متعرج, وبينما يهرول مبتعدا اصطدم بفتاة وقد بدا انها غير متزنة الخطي , فسقطت علي الارض , كاد ان يتجاوزها في طريقه, لكن هناك شئ شد انتباهه اليها , كانت الفتاة كما يبدو من حالتها قد تعاطت لاحد المواد المخدرة الشائعة بين اولاد الشوارع والتي تكون عادة مخلقة من مواد بسيطة رخيصة الثمن "الجله"..
لكن ما جذبه اليها انها كانت تشبه اخته الصغري بدرجة كبيرة, وقدكانت الفتاة تقريبا في مثل سنه اوتصغره قليلا, مما جعل قلبه يرق لحالها وقد تخيل اخته في مكانها, فكر لثواني قبل ان يمسك يدها لياخذها معه في هروبه ودون ان يسألها ..ركضا سويا مسافة كافية للابتعاد عن المنطقة الخربة, فشدها للجلوس وقد نالا منهما التعب مبلغه, وما ان جلسا متخذين من الاحجار الموجودة مقعدين لهما , حتي بدأت الفتاة بفعل غير متوقع وان بدا انها معتادة عليه !
.. اذ همت بفك ازرار ملابسها فما كان منه الا ان نهرها بعد ان ادرك ما تنتويه ..فاذا بها تاخذها حالة من البكاء الهيستيري, وقد اخذت في ترديد بعض الجمل والكلمات غير المترابطة وان كانت واضحة المعني" زوج والدتي ..
اعتدي علي ..الشارع ..حاولت ان اقاوم..المقاومة تعني الضرب..استسلمت"
مرالوقت وهو يحاول تهدئتها حتي غلبها النعاس وقد استلقت برأسها علي كتفه ,حيث بدا انها مازالت تحت تأثير المخدر..!كان احمد مايزال مستيقظا بينما اخذت اشعة الشمس تزحف ببطأ لازاحة هذه التراكمات من الظلام والبرودة والخوف والتي اوجدتها الليلة الماضية..
بدأت الفتاة والتي لم يعرف اسمها حتي الان بفتح عينيها مع احساسها بدفئ النهار, نهضت وعلامات الزهول ترتسم علي ملامحها وبدت انها تبذل مجهود كبير لتذكر ما حدث بالامس..لم يمضي وقت طويل حتي تذكرت ما حدث مع قليل من المساعدة من جانبه ,لم يشأ ان يسألها عن حكايتها مكتفيا بمعرفته اسمها حيث اخبرته ان اسمها امل .. ثم مالبث ان سألها ان كانت جائعة فاومأت رأسها بخجل, فاستئذنها لاحضار بعض السندويتشات ..
وفي الطريق تذكر انه نسي نقوده خلف العربة التي كان ينام عندها, فقرر ان يعود مرة اخري لنفس المكان !استطلع المكان من بعيد , فلاحظ انه ما يزال هناك بعض رجال الشرطة مما اثار دهشته, لم تدم دهشته طويلا فقد رأي بعض رفاقه ,فتوجه اليهم في خطوات حذرة, فاخبره احدهم ان الزعيم قد لقي مصرعه !
.. وان لا احد يعلم من الجاني ..فالبعض يقول انه احد الصبية من ضحاياه , بينما يقول اخرون انه احد تجار المخدرات بعد علمه ان الزعيم قد وشي به لدي الشرطة, ثم صار صوت الفتي خافتا لا يكاد يسمع وهو يقول ان هناك من يقول ان الشرطة هي من قامت بقتله بعد ان تسرب خبر جرائمه الي الصحافة !!!
عاد احمد الي الفتاة , بعد ان احضر لفافة بها بعض السندوتشات , ثم قام بدفع اللفافة اليها ..بدات هي في قضم الطعام في نهم بينما هو ينظر اليها وقد علت وجهه ابتسامة ممزوجة بالدهشة ..
ثم مالبث ان عاد الي شروده وقد اغمض عينيه تاركا العنان لخياله والذي صار هو وسيلته الوحيدة للهروب من الواقع..