الأربعاء، 30 أبريل 2008

ضحايا ومذنبون "قصة قصيرة "



المكان يمتلئ باكداس من العربات المحترقة والمحطمة والتي صارت مأوي للقطط وغيرها من الحيوانات الضالة, لكن يبدو ان هناك سكان جدد بدأوا في سكن هذه المنطقة الخربة الواقعة علي اطراف المدينة , هؤلاء السكان هم خليط غيرمتجانس من اطفال ومراهقين تجمع بينهم جميعا صفات البؤس والشقاء وانهم جميعا قد لفظتهم مجتمعهاتهم ففرض عليهم هذا الكيان العشوائي قوانينه الخاصة.."البقاء للاقوي,القسوة وعدم الرحمة تجاه الاخرين" ..!!
خلف احدي هذه العربات المحترقة كان يرقد احمد وهو منكمش حول نفسه ,متخذا وضعية الجنين وهو يقاوم تلك البرودة التي تكاد تدك اوصاله وقد استعان عبثا ببعض الجرائد كغطاء ,علي امل ان يشعر ببعض الدفئ في تلك الليلة شديدة البرودة !
لكن صرخات مدوية مفاجئة افزعته وقد جعلته يقفزفي مكانه وقد اخذ يرتجف من الخوف والبرد , وقد حاول ان يجعل من بقايا العربة وظلمة الليل ستار له, محاولا ان يحبس انفاسه لكي لا يشعر به احد ..توالت الصرخات وقد بدأ يلمح نور ادرك بعد برهة ومن خلال الدخان المتصاعد ان احدهم اشعل نارا, رفع رأسه بحذرفوقع بصره علي فتي متوسط البنيان في العشرين من عمره,وهو يشير لاثنين من الصبية لاقتياد الطفل الصغير اليه,لقد كان هذا الفتي ما يعرفه الجميع في تلك المنطقة العشوائية باسم الزعيم !!... ومعه اثنان من اتباعه ..
استمرت صرخات الطفل التي تحمل عبارات التوسل والاستعطاف وقد اخذ يجول ببصره كمن يبحث عن من ينقذه , لكن من يملك الجرأة علي مواجهة الزعيم والذي علي الرغم انه لم يكن يتمتع ببنية جسمانية خاصة,لكن كان مجرد ذكر اسمه يصيب القلوب بالفزع !
كان احمد يدرك تماما سبب صراخ الطفل والذي يدل حجمه انه لم يتجاوز التاسعة من عمره, فمن المؤكد انه من الوافدين الجدد اللذين يجب ان يتلقوا اولي دروس هذا العالم حيث امتهان كرامتهم وانسانيتهم علي يد الزعيم ... ليصيروا خاضعين له!
استمرت صرخات الطفل الصغير لدقائق ثم عاد الصمت مرة اخري للمكان باستثناء صوت لنحيب متقطع يصدر عن الطفل ,وكان هذا يعني ببساطة ان الطفل الصغير قد فقد برائته للابد !!
كان احمد قد اعتاد علي مثل تلك المشاهد, مما خلق لديه نوع من انواع تبلد المشاعر,وعدم الاكتراث , خاصة وانه لا يستطيع ان يفعل اي شئ !
فما كان منه الا ان عاد لموضعه الاول قبل سماعه لصرخات الصغير ,لكنه لم يستطع معاودة النوم حيث بدأت الذكريات تطرق رأسه بقوة وكأنها شريط سينمائي يمر امام عينيه..
لقد توفي والده منذ ثلاث اعوام لينتقل هو واخوته للعيش في منزل جدته بعد زواج والدته وقد كان وقتها في الصف الثالث الاعدادي , وقد شعر انه عبء علي جدته ففضل ان يلتمس طريقه الي الشارع وليته ما فعل !
وبدأ حينئذ في بيع المناديل في اشارات المرورعلي ان يقضي الليل في أي مكان سواء كان ذلك عمارة تحت الانشاء بعد مغافلة حارسها او احدي المناطق الخربة او حتي علي احد الارصفة ,حتي كان اليوم الذي تم الامساك به من خلال الشرطة في احدي الحملات والتي ترتبط عادة باثارة قضية اولاد الشوارع اعلاميا مما يولد حالة من الاهتمام المؤقت ثم تعود الامور الي ما كانت عليه !فتم اقتياده مع اخرين لاحد اقسام الشرطة في تجربة مريرة تخللتها التعرض لاصناف مبتكرة من طرق الاهانة علي يد رجال الشرطة, حتي تم ايداعهم في احدي الاصلاحيات , ليجد في الاصلاحية صورة مصغرة لمجتمع الشارع !
فمثلما يوجد زعيم هنا, يوجد في الاصلاحية زعيم خاص بها, فبعد اغلاق باب العنبر يسود نفس القانون الذي يحكم مجتمع اولاد الشوارع , وهويذكر كيف نجا في بداية دخوله للاصلاحية من نفس التجربة المريرة التي مر بها الطفل الصغير لولا تدخل مشرف العنبر وهو امر لا يحدث كثيرا !
ربما لم يخفف عنه مرارة هذا الواقع الا زيارة بعض المتطوعين اللذين كانوا يحضرون معهم الاطعمة والملابس الجديدة واهدائها لابناء الاصلاحية..ابتسم احمد وهو يتذكر نورا وقد كانت احدي المتطوعات , وكانت زيارتها الاسبوعية هي الشئ الوحيد الذي يبقيه في الاصلاحية , كانت تحمل مشاعر حنان متدفقة طالما غمرته بها, كان يراها كاحد الملائكة وقد نزلت علي الارض ,كانت كلماتها الحانية تجعله يطير من فرط السعادة , كانت كثيرا ما تطلب منه ان يكمل دراسته " وقد كان في احلام يقظته يتخيل نفسه قد تخرج من الجامعة واذا بها تصارحه بحبها التي كانت تحتفظ به في قلبها علي امل ان يصير انسان له مكانته في المجتمع ليقبل اهلها به وان كانت تخشي من فرق السن لكونها تكبره ببضع سنوات"!
لكن حدث ان توقفت عن زيارة الاصلاحية, وعندما سأل عنها احد اصدقائها من المتطوعين , اخبره انها تزوجت, وهكذا لم يعد هناك شئ يجعله يتحمل البقاء في الاصلاحية , فقرر الهرب ...
صوت سارينة عربة الشرطة يدوي.. انتبه احمد للصوت الذي اخذ يقترب , لم يكن احمد مستعدا لتكرار نفس التجربة السابقة في حال الوقوع في ايدي الشرطة , فقررالفرار من المكان !
.. متخذا طريق متعرج, وبينما يهرول مبتعدا اصطدم بفتاة وقد بدا انها غير متزنة الخطي , فسقطت علي الارض , كاد ان يتجاوزها في طريقه, لكن هناك شئ شد انتباهه اليها , كانت الفتاة كما يبدو من حالتها قد تعاطت لاحد المواد المخدرة الشائعة بين اولاد الشوارع والتي تكون عادة مخلقة من مواد بسيطة رخيصة الثمن "الجله"..
لكن ما جذبه اليها انها كانت تشبه اخته الصغري بدرجة كبيرة, وقدكانت الفتاة تقريبا في مثل سنه اوتصغره قليلا, مما جعل قلبه يرق لحالها وقد تخيل اخته في مكانها, فكر لثواني قبل ان يمسك يدها لياخذها معه في هروبه ودون ان يسألها ..ركضا سويا مسافة كافية للابتعاد عن المنطقة الخربة, فشدها للجلوس وقد نالا منهما التعب مبلغه, وما ان جلسا متخذين من الاحجار الموجودة مقعدين لهما , حتي بدأت الفتاة بفعل غير متوقع وان بدا انها معتادة عليه !
.. اذ همت بفك ازرار ملابسها فما كان منه الا ان نهرها بعد ان ادرك ما تنتويه ..فاذا بها تاخذها حالة من البكاء الهيستيري, وقد اخذت في ترديد بعض الجمل والكلمات غير المترابطة وان كانت واضحة المعني" زوج والدتي ..
اعتدي علي ..الشارع ..حاولت ان اقاوم..المقاومة تعني الضرب..استسلمت"
مرالوقت وهو يحاول تهدئتها حتي غلبها النعاس وقد استلقت برأسها علي كتفه ,حيث بدا انها مازالت تحت تأثير المخدر..!كان احمد مايزال مستيقظا بينما اخذت اشعة الشمس تزحف ببطأ لازاحة هذه التراكمات من الظلام والبرودة والخوف والتي اوجدتها الليلة الماضية..




بدأت الفتاة والتي لم يعرف اسمها حتي الان بفتح عينيها مع احساسها بدفئ النهار, نهضت وعلامات الزهول ترتسم علي ملامحها وبدت انها تبذل مجهود كبير لتذكر ما حدث بالامس..لم يمضي وقت طويل حتي تذكرت ما حدث مع قليل من المساعدة من جانبه ,لم يشأ ان يسألها عن حكايتها مكتفيا بمعرفته اسمها حيث اخبرته ان اسمها امل .. ثم مالبث ان سألها ان كانت جائعة فاومأت رأسها بخجل, فاستئذنها لاحضار بعض السندويتشات ..
وفي الطريق تذكر انه نسي نقوده خلف العربة التي كان ينام عندها, فقرر ان يعود مرة اخري لنفس المكان !استطلع المكان من بعيد , فلاحظ انه ما يزال هناك بعض رجال الشرطة مما اثار دهشته, لم تدم دهشته طويلا فقد رأي بعض رفاقه ,فتوجه اليهم في خطوات حذرة, فاخبره احدهم ان الزعيم قد لقي مصرعه !
.. وان لا احد يعلم من الجاني ..فالبعض يقول انه احد الصبية من ضحاياه , بينما يقول اخرون انه احد تجار المخدرات بعد علمه ان الزعيم قد وشي به لدي الشرطة, ثم صار صوت الفتي خافتا لا يكاد يسمع وهو يقول ان هناك من يقول ان الشرطة هي من قامت بقتله بعد ان تسرب خبر جرائمه الي الصحافة !!!
عاد احمد الي الفتاة , بعد ان احضر لفافة بها بعض السندوتشات , ثم قام بدفع اللفافة اليها ..بدات هي في قضم الطعام في نهم بينما هو ينظر اليها وقد علت وجهه ابتسامة ممزوجة بالدهشة ..
ثم مالبث ان عاد الي شروده وقد اغمض عينيه تاركا العنان لخياله والذي صار هو وسيلته الوحيدة للهروب من الواقع..


الأربعاء، 23 أبريل 2008

قصص من سطر واحد "3"


استيقظ فجأة ضميره لتلاحقه اشباح عشرات الضحايا ممن تلوثت يده بدماهم وهم يئنون تحت مقصلة التعذيب فقرر تقديم استقالته لولي نعمته وهو يشرح له ما يعانيه من عذاب الضمير والذي لم يجد مانع من قبولها بل وأرسله ليعتذر اليهم بنفسه !!!





ارادت إن تتاكد من اتقانها التمثيل فقدمت اروع ادوارها علي مسرح الحياة لكنه رغم ذلك لم يصفق لها بل واتهمها بالخداع فياله من انسان لا يعرف تذوق الفن






استضافة الملف بواسطة
كلمني كثيرا عن عدم اكتراث الاخرين بمشاعره, وانهم يقابلوا لهفته في السؤال عنهم بلامبالاة وقلة اهتمام , فنصحته ان يتعلم فن القسوة , وان يغمر قلبه في قالب من الثلج , وكانت مفاجأتي عندما اكتشفت انه ينفذ نصيحتي بمنتهي الدقة عندما تغيرت معاملته معي ..






علي عتبة الشرف قرر ان يطهر روحها من كل هذا الدنس الذي لحق بها, لكن في اللحظة التي كان يده الممسكة بالسكين تستعد لطقس النحر اصطدمت نظرته بعينيها المستكينة بينما هي تجثو علي الارض في استسلام لتذكره بنظرتها المتوسلة له وهي طفلة بالا يسافر ويتركها لتنفلت السكين من يديه في دوي مسموع





استكانت بين يديه كعصفور انهكه التعب وقد حط اخيرا علي عشه , بينما قبض هو علي معصمها كصياد اوقع اخيرا بفريسته





ربما لا يكون اصعب من الانتظار , لكن الامل في تحقيق مبتغاه جعله ينتظر وينتظر, وعندما كان قاب قوسين او ادنئ من تحقيق ما يريده ,اعلن صاحب المخبز ان الخبز قد نفذ ..





تلعثمت حروفه مرتبكة وهو يلفظ لها بكلمة احبك , لتتلعثم هي الاخري في حروفها وهي تعتذر له لكونها تحب احد غيره..





كانت مشكلته انه لا يوجد لديه اي مشكلة فيا لها من مشكلة !!!




ظل اكثر من ساعة يحكي لها كيف انه يشعر بوحدة قاتلة بعد ان تخلي عنه الجميع وانها صارت الان اقرب انسانة الي قلبه وبينما ينتظر وقع كلامه عليها اذ بها تخرج دعوة عقد قرانها من حقيبتها لتعطيها له ثم تتركه وتغادر المكان..





مع قرائتها اول سطور الرسالة كان قلبها يرتعش وجدا وقد طفقت دموع الفرح تترقرق في عينيها فها هو يعترف لها انه احبها كما لم يحب مخلوق من قبل وانه لم يتخلي عنها كما تصورت , لكن مع قرائتها اخر سطر من الرسالة شهقت من الالم وهي تقرأ عبارة " لن تصلك هذه الرسالة الا بعد إن اكون قد رحلت عن عالمك للابد"






كان صوت ممثل الادعاء يجلجل في قاعة المحكمة وهو يؤكد في ثقة إن المتهمة ارتكبت تلك الجريمة الشنعاء فهي قد قالت لا مع سبق الاصرار والترصد , ليصدر الحكم بعد المداولة بتكميم فم المتهمة مدي الحياة

الخميس، 17 أبريل 2008

قصاصات ورق منسية "2

تذوب الكلمات في بحر التنهد والتلعثم
وأنت ترقبيني في صمت
وفي تبسم ...
عندما أكون معك يصيبني الجنون
ففي عينيك مكر الساحرات وبراءة الأطفال ونظرة اللهفة والاشتياق



إليك أهذي حروف كلماتي
يا صاحبة الطلسم
يا من صببت علي اللعنة
ألا اعشق غيرك
يا تنهيدة أنفاسي المختنقة بين الضلوع
آن لك ان تشفقي بتوجعات هذا الخافق حتي الالم


استضافة الملف بواسطة
سأرحل الآن عنكم
أتمني أن تسعدوا بمغادرتي عالمكم
كفكفوا دموعكم
لا تشيعوني بكلمات الرثاء
فكم احترقت ألما من أجلكم
وكم نزفت دموعي أمام أعينكم
حتي وداعكم لن ينزع هذا الحزن التي زرعتموه في قدري




يا أنشودة الروح الممزوجة مع دمي
يا أنا .....
يا أحرف اسم منقوشة علي نبضي
وممنوع علي ان اقرأها ..
أني أتنفس وجودك لكي أكون
ومن غير وجودك لن اوجد

استضافة الملف بواسطة
عجبا لي مازلت أحارب وحدي
مازالت تتملكني روح هذا البطل الخرافي
أنقلد سيفا وهميا وأحارب أحلامي المجنونة
أتعثر بين أمنيات لن تتحقق
اطرق دروب المستحيل في ياس
جراحي مازالت تنزف
تهاجمني اشباح الذكريات الاليمة
تلعق جراحي في نشوة
ليس لي قوة إن ادفعها عني
انها الان ترقص رقصة الموت الاخيرة


السبت، 12 أبريل 2008

هذيان 2

عندما يسقط المطر

يثور الطفل داخلي

كلما سقط المطر

يتمرد محتجا علي التحافي معطف التعقل

يذكرني بتلك الرغبة المحمومة ابان الطفولة

ان ارقص تحت زخات المطر

استسلم جنوني واترك الطفل الصغير يقودني

ارتعش فرحا ولمسة الصقيع تتخلل داخل زوايا جسدي خلسة

ارفع وجهي للسماء لاروي ظمأي

وقد تسربت قطرات الماء الي روحي تغسلها

جسدي ينتفض كعصفور من فرط الارتعاش

لا اعلم كما ظللت في هذا الجنون

يخيل ان هناك في الافق من يحدثني

يهمس لي باسرار تتخطي حدود قدراتي البشرية

هل اسكرت عقلي نشوة الارتداد الي االطفولة

وقد اجتاحتني مشاعر متطرفة التناقض

بين إن اضحك وان اصرخ وان ابكي

وفجأة توقفت وتوقف كل شئ

فقد سكت بوح المطر
استضافة الملف بواسطة

اعترافات خاصة جدا



اعترف ان داخلي بحر من الحزن يعجز امهر السباحين علي اجتيازه

اعترف اني احب المطر, وان انظر للسماء , وان المس النجوم , واعشق البحر واتمني ان اسكن بين امواجه..

اعترف ان افضل الصمت علي كلمات خاوية المعني والعاطفة

اعترف ان الالم هو الصديق الاوفي في حياتي

اعترف ان كثيرا ما اسكب حزني علي الورق ليصير هو المداد الذي اكتب به

اعترف ان اكثر ما يملأني حنقا تزييف المشاعر

اعترف اني في قمة سعادتي بنجاح ما اشعر بمرارة لا اعرف مصدرها ..

اعترف اني لم اضحك من اعماقي منذ زمن بعيد

اعترف ان بضع كلمات قد تجعلني في قمة السعادة , وبضع كلمات تجعلني اتعس البشر..

اعترف اني اصبح في اسوأ حالاتي ان شعرت اني تسببت في ايلام او جرح مشاعر احد..

اعترف اني انسان يصعب اقناعه بشئ يخالف ما استقر في يقينه

اعترف ان الفراق هو قدري الذي علي ان اوقن به

اعترف اني احيانا اكون علي حافة الجنون ...

اعترف اني يجب علي الا احب لكن كثيرا ما تخذلني مشاعري

اعترف اني سئمت من تقلبات قلوب البشر

اعترف ان بعض الاسئلة من الحمق ان اسألها

اعترف ان ما في داخلي تعجز كل ابجديات العالم ان تحتمله

الاثنين، 7 أبريل 2008

بيت علي البر" قصة قصيرة"



أخذت ارقب سطح النيل التي أصبح يضج بالحركة مع انتشار أشعة الشمس وتغلغلها بين قطرات مياهه , دائما اشعر براحة غريبة كلما حضرت إلي هنا وكأني القي إلي النهر كل متاعبي وهمومي التي تثقل صدري طوال الأسبوع , فكلما تأملته انتابني إحساس إن هناك شريان خفي يصل بين هذا النهر العظيم وأوردة كل المصريين ليتدفق ماءه إلي عروقهم ليحمل إليهم كل صفاته من حب وخير ووداعة وأحيانا غضب وثورة ..


انتشلني من أفكاري هذه مشهد طالما مر أمام عيني دون ادني اهتمام مني فقد كانت هناك سفينة فارهة تمخر النهر بينما كان علي بعد أمتار قليلة قارب صيد رث يتهادي وقد بدا لي وكأنه يرقب هذا الكيان الهائل المار بجواره بحسرة وانبهار حيث مقعد علي مائدة في واحدة من تلك المطاعم العائمة يجاوز دخل أسرة كاملة تحاول إن تتصنع الرضا بواقع عيشها الصعب ..

أخذت ارقب قارب الصيد هذا وقد لاحظت انه يقترب من اليابسة ,وقد لفت اهتمامي إن قاطنيه لم يكن فقط الصياد , بل كان يرافقه أفراد أسرته مما أوحي لي إن هذا القارب العتيق تتجاوز مهمته كونه وسيلة لكسب العيش بل هو يؤدي أيضا دور بيت للصياد وعائلته أثار أمر هذا الصياد العديد من التساؤلات داخلي بقدر ما أثار لدي الكثير من الفضول الصحفي وحينئذ وجدت صعوبة شديدة في إن اكبح تلك الرغبة العارمة في أن أتطفل علي حياة هذا الصياد ليكون هو موضوع تحقيقي الصحفي القادم , ربما راودني بعض الامتعاض مع شعوري بأني اجعل من شقاء إنسان مداد لقلمي لكن أليست تلك طبيعة الحياة ألا يعتمد الطبيب علي الآم المرضي كوسيلة لكسب العيش ...

ربما يقال انه يخفف من آلامهم لكني أنا أيضا أساعدهم حتى ولو كانت مساعدتي تلك مجرد كلمات ؟!

كان حينئذ يجلس علي حافة القارب , لوحت له بيدي وأنا اقترب من مركبه التي رست علي البر, بدأت حديثي بتقديم نفسي له

ازيك يا حاج , ممكن اتكلم معاك شوية , اصلي بعمل تحقيق عن حال الصيادين

ثم صمت منتظرا وقع كلماتي عليه ..رمقني الصياد العجوز بنظرة متفحصة وكأنه يحاول من خلالها غور أعماقي ثم شرد بذهنه للحظات جعلتني اتامل ملامحه عن قرب ..كانت التعاريج التي أحدثتها السنين علي وجهه عميقة وغائرة بينما احدي عينيه ساكنة في ظلام سحابة من المياه البيضاء قد استوطنتها منذ زمن , بينما كانت يده ترتعش في اهتزازات شبه منتظمة ..

ثم أخيرا أومأ برأسه علامة الموافقة ثم انحني وهو يتناول لوح خشبي ما لبث إن القي طرفه لليابس لكي أتمكن من الصعود إلي القارب ..

ما إن وطأت قدمي سطح القارب حتى أخذت أتجول ببصري في كل أرجاء المكان ,لم يكن القارب يحمل من متاع ما يلفت الانتباه , فقط صندوق خشبي عتيق تكاد إن تتفكك أوصاله من تأثير الزمن عليه وبعض أجولة متناثرة في أنحاء القارب بينما هناك في منتصف القارب زوجة الصياد كانت تجلس القرفصاء تسكن نظراتها المطرقة حزن عميق ما لبثت إن تحولت لنظرة توجس ما إن وقعت نظراتها علي ..

الشاي يا نحمد وجه ندائه لابنته التي كانت ترافق شقيقتها في أخر القارب وقد انهمكت في أصلاح شبكة الصيد كما أدركت بعد ذلك بينما كانت الصغرى تنصت لمذياع تحمله في يديها .
ادهشني إن لا احد منهم استجاب للنداء بل لم تصدر عن أي منهم أي حركة توحي بنية لتلبيته وان اكتفت الصغرى بنظرة خاطفة رمقتني بها ثم عادت لما كانت تفعله! ..
سألته في البداية عن كونهم يتخذون هذا المركب المتهالك مسكن لهم , كانت نبرة صوتي توحي باندهاشي , بينما كانت عيني مازالت تنهش كل ركن من المركب غير مصدقة

اللي رماك علي المر اللي امر منه

أجابني بتلك العبارة المقتضبة بينما سافر ببصره بعيدا باتجاه اليابسة..

طيب ما حاولتش تشوف حد يساعدك او تقدم طلب للحكومة يجيبولك مسكن

ابتسم ابتسامة باهتة وقد حملت عينه الكثير من الكلمات لكنه هذه المرة أيضا اكتفي بكلمتين فقط " المساعد ربنا " اوحت لي بمدي ما يحمله داخله من إيمان عميق وربما يأس أعمق ؟!

جلست متخذا من جوال وجدته مقعدا , ثم سألته مستفسرا ..

من امتى وانت تمارس الصيد يا حج ؟

تنهد وزفر زفرة عميقة ثم قال ياه ... من زمان أوي ..من يوم ما وعيت علي الدنيا , وانا بساعد أبويا ما هو برده كان صياد , عمري كله وانا معرفش حاجة تانية اعملها غير الصيد

حتى ذلك الوقت ظلت زوجته ترمقنا في صمت بل وعدم اكتراث وكأن الأمر لا يعنيها دون إن تحاول إن تتدخل في الحديث , حتى كان سؤالي وأنا أشير للفتاتين.. دول كل ولادك

فإذ بها تنتفض في مكانها وكأني ارتكبت خطأ لا يغتفر

أزاي.. ربنا يبارك في أخوهم الكبير محمود

التقطت طرف الخيط وقد أسعدني إنها أخيرا تخلت عن صمتها فسالت في فضول ..

هو مش بيشتغل صياد برده

لأ هو بيشتغل نجار مسلح علي البر , اصله اجوز واحدة من هناك وربنا رزقه بولد وبنت

كانت تتحدث وعينيها تمتلئ بعاطفة أمومة صادقة تجاه وليدها بل وعلت وجهها ابتسامة صافية لأول مرة أراها منذ إن بدأت حديثي ..

تقمصتني حينئذ روح المحقق فتابعت حديثي بسؤال ندمت عليه بعد ذلك ..

هو مش بيجي يزوركم علي طول

كان الصمت هو الجواب الوحيد الذي تلقيته , بينما حديث بالنظرات كان يدور بين الاثنين حتى قررت هي إن تقطع هذا الصمت وبدت كأنها تدافع عن وليدها أمام نظرات الاتهام التي كانت تفيض بها عينه

الدنيا تلاهي يا بني , والمعايش صعبة..

لمحت في تلك الأثناء غلالة من الدموع تغشي عينه السليمة

انت محتاج منه حاجة

حاولت بعبارتها تلك إن تشد آزره لكنها كانت لها تأثير عكسي تمامافقد أجهش الصياد العجوز في نوبة من البكاء المرير, صاحبها نوبة سعال حادة ,وقد أخذت يده ترتعش بقوة , راودني ساعتها إحساس بالذنب , وألح علي عقلي سؤال قهري هل أنا نكأت أحزانه بقسوة من خلال حديثي هذا , أم إن أحزانه تلك هي رفيقته التي يشعر بثقلها في حياته كلما لطمته الأيام بتقلباتها المستمرة ..

الميه يا بت

انتبهت من أفكاري علي صياح زوجة الصياد , وفي هذه المرة لبت الأخت الكبرى التي عرفت إنها هي نحمد تلك التي اختصها الصياد بندائه الأول , وأحضرت القلة مهرولة ,ثم دفعتها لأبيها وقد وضح علي وجهها تعابير الخوف والقلق لأجدها أنا فرصة لتأملها عن قرب , كانت تحمل ملامح جميلة وان بدت مختبئة تحت طبقة كثيفة من الشقاء والحزن ..

يبدو إني أطلت النظر إليها أكثر من اللازم مما جعل وجهها يتدرج بحمرة الخجل مع ملاحظتها لنظراتي

انتي مخطوبة يا نحمد

كان سؤالي مباغت لها وقد تسبب في زيادة ارتباكها فما كان منها إلا أن ولت وجهها تجاه والدتها وكأنها تطلب منها العون , وبالفعل تولت زوجة الصياد عناء الإجابة عن سؤالي..

هي مخطوبة لابن خالتها واتدخل كمان شهر

لكني أعدت دفة الحديث إليها مرة أخري مستفسرا::

انتي دخلتي المدرسة يا نحمد

هذه المرة تكفل الصياد بالإجابة

العلام ليه ناسه يا بني , وهي اتعمل ايه بالعلام , ابن الوزير ايطلع وزير وابن الصياد ايطلع صياد

ثم صمت فجأة , ربما يكون قد تذكر ساعتها إن ابنه قرر التمرد علي مهنته مفضلا العيش علي البر باحثا عن حياة أفضل لأولاده بعيد عن الشقاء التي قاساه من حياة الصيد التي عايشها مع والده .حاولت إن اقطع هذا الصمت من خلال سؤال قفز إلي ذهني بغتة

هو الرزق بتاع الصيد مش بيكفيك

يا ولدي رزق البحر ده في حكم الغيب ممكن يوم يكون الرزق كتير ويوم بيكون قليل و في ايام الرزق بيكون شحيح ..

.صمت قليلا..

ثم أردف انت عارف يا بني احنا بقالنا يومين غموسنا شوية ملح ودقة ..

كان يتكلم بتأثر واضح حتى خشيت إن تعاوده نوبة البكاء مرة أخري ..

لكن هنا تدخلت زوجته التي أصبح رباطة جأشها يثير إعجابي محاولة إن تبث الرضا إلي نفسه

الحمد الله , احنا احسن من غيرنا

في النهاية لم يكن هناك كلام يقال أكثر مما قيل , لكني لم أشأ إن أغادر السفينة دون أتحدث إلي الابنة الصغرى التي بدت لي إنها لم تتجاوز السادسة عشر من عمرها وقد أثار فضولي تجاهها تلك النظرة الهائمة التي تحملها عينها والتي لاحظت إنها دائمة التنقل بين المذياع والشاطئ , وقد بدت أنها تعيش في عالم خاص بها وحدها سالت والدتها عن اسمها كمقدمة لطلب الحديث معها فما كان منها إلا إن نادتها تعالي يا أمل البيه عاوز يكلم معاكي استأذنتها إن اذهب أنا للحديث معها , فقد كنت أريد الحديث معها بمفردها حتى لا يتسبب وجود والديها بجوارها في عدم استرسالها في الحديث بحرية

علي عكس أختها كانت تتمتع بجرأة واضحة فعندما نظرت في عينيها لم تحاول إن تهرب من نظراتي بل ظلت علي ثبات نظراتها تجاهي....

انتي مخطوبة يا امل زي اختك

هو ابن عمي كان عاوز يجوزني بس انا موافقتش

ليه هو مش عجبك

هو كويس بس هو صياد زي ابويا

أثارت إجابتها دهشتي فسألتها في فضول..

انتي مش عاوزة تجوزي صياد

سرحت بنظراتها تجاه اليابسة للحظات ثم أطرقت رأسها في صمت وكأنها لا تجد من الكلمات ما تعبر به عن أمنيتها التي أوضحتها نظراتها , فسألتها سؤال أخير:

ايه امنيتك اللي نفسك تتحقق يا امل

ولت نظراتها تجاه اليابسة مرة أخري ثم نبتت عن شفتيها ابتسامة حالمة وهي تقول عبارة واحدة لخصت كل أحلامها

انا عايزة اعيش في بيت علي البر


users online